Event
Description
مداخلة البروفسور سليم دكّاش اليسوعيّ، رئيس رابطة جامعات لبنان ورئيس جامعة القدّيس يوسف في بيروت، في مؤتمر الكتلة الوطنيّة حَول الوضع التربويّ وتحدّيات العام الدراسيّ 2021-2022،
الثلاثاء الواقع فيه 7 أيلول (سبتمبر) 2021،
أودّ أوّلاً أن أرحّب بكم أجمل الترحيب في الجامعة اليسوعيّة لأنّكم كمجموعة وطنيّة، أردتم التفكير في الوضع التربويّ وتحدّيات العام الدراسيّ 2021-2022 والسعي كذلك لتأمين الدعم لضمان استمراريّة القطاع التربويّ في لبنان. وإلى الترحيب أضيف كلمة الثناء على هذه المبادرة التي تأتي في مكانـها وزمانـها أمام الأزمة التي تواجه التربية في بلادنا، من دون أن يرفّ جفن المسؤولين السياسيين. من هنا أتوقّف عند النقاط التالية:
أوّلاً: المدرسة والجامعة تواجهان اليوم عاصفة إستثنائيّة هي الأخطر عليهما في نظري منذ مئة عام وكأنّ الدعوة للاحتفال بالمئويّة الأولى هي دعوة مزدوجة: إحتفال بدفن الصيغة الوطنيّة اللبنانيّة وكذلك إحتفال بدفن تلك التي كانت ولا تزال في أساسات الكيان اللبنانيّ الناشئ في السنة 1920، أعني المؤسّسة التربويّة على مستوى الجامعة والمدرسة وأيضًا العائلة اللبنانيّة التي يمزّقها التهجير والاغتراب. اليوم الأزمة تنتج الضائقة المعيشيّة الحياتيّة اليوميّة وكأنّ لا حلّ في الأفق. إلاّ أنّ الأمر هو نتيجة وليس سببًا، حيث إنّ المشكلة ليست في الضائقة فحسب وليس في جائحة كورونا التي ما زالت تحصد الضحايا، إنّما في الانهيار الوجوديّ الذي لم يعد يفرّق بين مدرسة رسميّة وخاصّة وبين جامعة وأخرى، وهي تتهاوى وتتفكّك من دون أن ينبري أحد للمواجهة وطرح خطط عمليّة للإنقاذ أو التخفيف من هذه الأزمة. وزير التربية يحاول استنهاض الهمم ويتّصل يمنة ويسرة، إلا أنّه كمن يصفّق لوحده في قاعة موحشة فارغة لا يرتدّ إليه سوى صدى التصفيق ليس إلاّ.
ثانيًا: بحسب بعض الخبراء المشهود لهم في التربية المدرسيّة في لبنان، المشهد، ومن زمان، هو في شكل دائرة كبيرة تتوسّطها ثلاث دوائر: في منتصف هذه الدائرة الكبيرة هناك حلقة تمثّل على الأكثر عشرين بالمئة من مختلف مدارس لبنان، أكانت خاصّة أم رسميّة، هي ما نسمّيها مدارس النخبة وهذه استطاعت، بفضل حوكمتها وإدارتها ورؤيتها المستقبليّة وبرامجها الرياديّة ومعلّميها القادرين وخصوصًا بفضل هضمها للوسائل التربويّة المعلوماتيّة من منصّات وبرامج، أن تنقذ ولو نسبيًّا العام الماضي لا بل العامين الماضيين وتستطيع إكمال عملها وإن بصعوبة. مع العلم أنّ الكثير من الأهلين لم يعودوا يستطيعون، كما في السابق، تأمين الأقساط الضروريّة لتستمرّ العمليّة التربويّة في هذه المدارس.
الحلقة الثانية التي تزنّر الحلقة الأولى من هذه الدائرة الكبرى التي تمثّل أقلّ من خمسين بالمئة من مدارس لبنان، أكانت رسميّة أم خاصّة، هي التي تسيّر أمورها بالتي هي أحسن وتعمل بحدود الإمكانيّات المتوفّرة لديها. وهذه المؤسّسات استطاعت مع الكثير من العناء أن تؤمّن الدراسة لجزء غير يسير من تلامذتها، إلاّ أنّها في الأساس، وقبل الأزمة، لا تتوفّر لديها الإمكانيّات والمختبرات والأجهزة المناسبة لتأمين سير عمليّة التعليم.
الحلقة الثالثة التي تزنّر الدائرة الصغرى النخبويّة والدائرة الثالثة هي تلك التي تمثّل حوالي الثلاثين بالمئة من المدارس التي لم تستطع خلال السنتين الماضيتين من تأمين اللازم من التدريس لتلامذتها. وهذا الرقم حصلتُ عليه من خبراء وزارة التربية الذين يقولون بأنّ ثلاثين إلى أربعين في المئة من تلامذة لبنان لم يحصلوا إلاّ على القليل القليل من التعليم خلال السنتين الماضيتين.
وإن جنحنا صوب الجامعات، فإنّها في دائرة من حلقتين، الأولى وهي الصغرى التي تمثّل النخبة والثانية تمثّل شريحة من الجامعات التي استُحدِثَت في التسعينات من القرن الماضي وفي مستهلّ القرن الحادي والعشرين. ومن بين هذه الجامعات، وهي تجاريّة في غالبيّتها، في الحلقة الثانية، من سوّلتها نفسها خلال السنوات الفائتة بتسويق الآف الشهادات لطلاّب شبه وهميّين في الداخل والخارج ووحده تقرير للجيش اللبنانيّ كشف عن ذلك في حين أنّ حكم القضاء المدنيّ نام في الأدراج بوحي من أرباب السياسة الطائفيين وكم هم كثر!
ثالثًا: أمأم هذا الواقع المأزوم منذ زمن، وقد كشفت عنه جائحة الكورونا اليوم وزادت من انكشافه الضائقة المعيشيّة الحياتيّة وانحسار تأمين الوقود والتواصل والقدرة على التحرّك، ماذا نستطيع أن نفعل لتأمين الدعم لضمان استمراريّة القطاع التربويّ، كما هو عنوان هذا المؤتمر. أسمح لنفسي بطرح أربع أفكار مترابطة بعضها بالبعض الآخر:
أوّلا: تغليب منطق الرابط الاجتماعيّ على الرابط الماليّ حيث ممكن ذلك لتخفيف الثقل عن كاهل الأهلين واتّخاذ القرار بعدم استثناء أحد من التعليم. في هذا المضمار، يُنشَأ صندوق عامّ سياديّ تضامنيّ تؤمّنه مساعدات المقيمين المقتدرين والمنتشرين اللبنانيين وذلك لتأمين المِنَح للعائلات الأكثر عوزًا في المدرسة الخاصّة وكذلك بشكل إعانات للمدرسة الرسميّة والتي تحدّدها مكاتب المساعدات الاجتماعيّة في المؤسّسات المدرسيّة، على أن تُدفَع لصندوق المدرسة مباشرة.
ثانيًا: تشبيك المدارس بعضها بالعض الآخر، المدارس الكبرى النخبويّة بالمدارس الصغرى لخلق شبكة تضامنيّة بين الجميع بحيث تأخذ المدارس القادرة على عاتقها مستوجبات الصُغرى.
ثالثًا: الاستمرار في الضغط لكي يتمّ تحرير الجزء اللازم من مبلغ الـ 860 مليون دولار أميركيّ دعمًا للتجهيزات وأجور الأساتذة في المدارس وللوقود بموجب خطّة شفّافة يشارك فيها كلّ القطاع الخاصّ.
رابعًا: المشكلة، ولا أريد أن أسمّيها مشكلة، من سيقود هذه العمليّة الرياديّة وسط الضباب السياسيّ والانهيار الأخلاقي القائمّ! أعتقد أنّها ستكون لجنة مشتركة من ثلاثة أطراف: وزارة التربية وبما تمثّله، واتّحاد المدارس الخاصّة، ورابطة جامعات لبنان وأعضاء من المجتمع المدنيّ ليستطيعوا القيام بهذا العمل الضروريّ لإنقاذ لا السنة الدراسيّة فقط بل التربية في لبنان.
أختم بالقول بأنّ هذه العمليّة، إن نجحت، فهذا سيكون مفتاحًا للولوج إلى عمق الأزمة التي تعصف منذ سنوات بالتربية وبالتعليم والتعلّم، بحيث يتواصل العمل لتطوير الرؤية لأيّ تربية وأيّ مواطن نريد، وبالتالي لتأهيل الإدارات واستعادة المناهج والبرامج والكتب المدرسيّة، وتطوير قدرات الأساتذة والمعلّمين، وتأهيل الأبنية وكتاب التاريخ والتربية الوطنيّة والتعليم المختصّ، وجعل المدرسة نواة لتعزيز التعدّد اللغويّ الأساسيّ في عالم اليوم، وتثبيت المعلوماتيّة اختصاصًا يكتسبه كلّ تلميذ وطالب، وتأهيل الخدمات التربويّة.